عياش عن الحياة والفن بقلم بيتينا هينن آيك بقلم هانز كارل بيش
وُلدت بتينا هينان عياش في 3 سبتمبر 1937 في زولينغن، وهي الطفلُ الرابع للصحفيّ والشاعر هانز هينان وترعرعت في منزلٍ قديم نصف خشبي في ضواحي المدينة في منطقة هوشايد. وأدرك صديقٌ للعائلة، الرسام إرفين يوهانيس بوفين (1899-1972) موهبة الطفلة في وقتٍ مبكر، وقرر تشجيعها قدر الإمكان. واعتادت الطفلة الصغيرة بتينا مواجهة معلمها بضفائر شعرها الأحمر وكانت تدب بقدميها على الأرض غضبًا وكان منزل العائلة القديم والمهيب بالسجادة الفارسية المتلألئة، والأثاث الماهوجني والسقف المنحدر قليلاً المدعوم بعوارض من خشب البلوط يردد صدى عنادها. بالإضافة إلى أن بوفين كان معلمًا محنكًا حيث سمح لتلميذته بأن تطلق لنفسها العنان، ورغم أنه كان يضع قواعد محددة وخاصة، إلا أنه أذكى نار الموهبة الشابة وزادها توهجًا عوضًا عن أن يجمحها. وشجَّع المعلمُ الشابة اليافعة بكل ما وسعه وساعدها في إدراك ألوان قوية بطريقتها الرمزية. ربما كان هو أول من أدرك موهبة بتينا التي كانت متحررةً للغاية.
Signet with which Bettina Heinen-Ayech has been signing her works since 1951
التحرُّر من القيود! هذه الكلمات المنفردة هي المفتاح الذي فتح الأبواب أمام بتينا للدخول إلى عالم الرسم إلى يومنا هذا. فمعها لا يوجد تهاون في الحياة البرجوازية العادية أو حتى في جدران غرف المعيشة. فلم تكن تضجر إذا كانت صورها الخاصة لا تتناسب معًا في كثير من الأحيان. كما كانت تتصرَّف بشكلٍ عفويّ وبحماس، وأحيانًا ترسم أيضًا أشياء كان من الأفضل أن تتخلى عن رسمها؛ لأنها لم تكن "ترضخ" أبداً أمام التحدي الذي يواجهها، وكانت صادقة تجاه الشيء المقرر رسمه. وهذا يفسر في نهاية المطاف الجرأة التي كانت تقترب بها من عنان السماء والأرض والشعب في الجزائر، حتى لو كانت قد طورت منذ فترة طويلة الوعي الرسومي لمعلمها، والذي حاربت في كثير من الأحيان عندما كانت تلميذة لتحقيقه، وبعض الدوافع التي بدت في السابق وكأنها ذهبت سدُى، أصبحت تعذبها الآن لأيام وأسابيع وأشهر وأصبحت أسيرة لها. ولكننا هنا نميل إلى السبب الذي يفسر دائمًا أصالة فن بتينا وصولاً إلى فن الرسم الوطني الجزائري على ما يبدو!
ولكن دعونا نعود إلى المعلم والتلميذة. لم يعارض إرفين بوفين عندما رسمت الفتاة كما لو كان من الضروري فهم الرواية الإنجيلية عن الخلق. فتاةٌ بعمر 17 سنة تجعلُ الجبال لينةً مثل الممسحة. وبمخالب صفراء وصلت أشعة الشمس إلى السماوات والوديان الصادمة. وتشكَّلت كلُ هذه المعالم على مساحة مترين مربعين بألوانٍ مائية. وفي المعارض الجماعية الكبيرة يقر القاصي والداني بإعجابه بأعمال ومعروضات بتينا. حيث يضطرون إلى الوقوف والتمتع برؤيتها والشعور بضخامة الوصول وكيف تطبع الثقافة والإنسانية بمرور الوقت على هذا الفن على مدار 20 عامًا من العمل في الجزائر: ثمرةٌ انتصارية للعزلة! كما أن صورها تمثل رحلةً إلى الجزائر للتعرُّف على عائلة بتينا، وعلى شعب هذه الدولة الواقعة في شمال أفريقيا. فكانت رحلة استكشافية مع رينو الصغيرة المضطربة عبر مسافة تبلغ ألف كيلومتر من الصحراء، مرورًا بأنقاض المدن الرومانية، ووصولاً إلى الواحات بمستوطناتها المبنية من الطين.
دعونا نعود إلى الفتاة الصغيرة التي قاتلت في معارك زونن بالألوان المائية ولم يكن أحد يشجعها سوى كارل شميدت روتلوف: "كوني صادقة مع نفسك يا بتينا!". في ذلك الوقت، أدركت العارضة هانا بيكر فوم راث من فرانكفورت هذه الموهبة العاصفة، وعلى الرغم من أن هذه الشابة لا تبلغ من العمر إلا 18 عامًا إلا أنها أدخلت صورها في معرض تمثيلي للفن الألماني الحديث أُقيم في جميع أنحاء العالم. لذا عُرضت أعمال بتينا هينان من زولينغن في الوقت نفسه مع أعمال بول كلي، وماكس بيكمان، وماكس إرنست، وإرنست لودفيج كيرشنر، وكيسه كولفيتز؛ ولم تتعرَّض أعمالها للنقد، بل على العكس: حيث صرحت صحيفة برازيلية: "... كنا نرغب في رؤية المزيد من أعمالها".
في ذلك الوقت اشتد لهيب بتينا وزاد شغفها. كانت طالبةً في مدرسة كولونيا للفنون وكافحت في صف بروفيسور أوتو جيرستر بالرسم التشريحي والرسم الجداري الضخم بعد أن حثها إرفين بوفين على تجربة الشكل الكبير وأدرك موهبتها الخاصة في التعامل معه. وقبل ذلك كانت تلميذةً ملتحقةً بالمدرسة الثانوية للفتيات أوجست ديكه في مسقط رأسها زولينغن وتتذكر بكل حب وحنين معلمتها المختصة في الفن يوهانا بوسر. لم يكن من السهل على بتينا أن تحصل على تقدير لعاطفية فنها في مدرسة الفنون في كولونيا، لكن شهاداتها ساعدتها في الأخير في الحصول على منحتين دراسيتين من ولاية شمال الراين - ويستفاليا (1959 و1962). وكانت محطات تدريبها التالية: أكاديمية الفنون في ميونيخ مع الأستاذ هيرمان كاسبر، وفن الرسم الجداري الضخم والبورترية، وأكاديمية الفنون الملكية في كوبنهاغن مع الأستاذ بول سورينسن، والرسم الحر ورسم الأشخاص. بالطبع كانت تواجه بتينا مصاعب في العالم الأكاديمي بسبب آرائها واستخدامها الغريب للألوان المائية؛ ومن ثم يمكن وصفها بالتلميذة الصعبة، ومن المرجح أن هذا يفسر بعض الأشياء التي فعلتها الأكاديمية ويفسر التناقض في الانتظام الصارم الناجم عن قبول الدراسة. ومع ذلك يسر بتينا تذكر سنوات دراستها، وخاصةً تلك التي قضتها في كوبنهاغن. ولن تنسى أبدًا ظلامها وأضواءها الناتجة عن مزاجها بفعل الأمطار والثلوج؛ تجربة الحرية هي أيضًا لا تُنسى. كما كانت قاعات الأكاديمية مفتوحةً لها حتى منتصف الليل، وهي أول طالبة ألمانية في هذه المدرسة بعد الحرب. وعلى الرغم من أنها بالكاد سوف تتعرف على اللوحات الزيتية التي صنعتها بنفسها في ذلك الوقت على أنها لوحاتها الخاصة بها، إلا أنها كانت تمثل تحديًا ذاتيًا مهمًا بالنسبة لها. بالإضافة إلى أنها تعرفت أكثر عن طبيعتها وفهمتها بفضل الدخول إلى عالم الرسامين الشماليين من أمثال إدوارد مونش وزولبيرج وكيتلزن وكارل لارسون. وبهذه الطريقة تشكَّلت معالمُ وعيها بإرادةٍ ذاتيةٍ متزايدة. وقد تعزز ذلك بفضل معايشة المناظر الطبيعية بصورة مكثفة في النرويج في أسابيع الصيف الطويلة في جزيرة ألستن وبحيرة ميوزا زيه. وهكذا أصبحت بتينا في الشمال لأول مرة ما هي عليه اليوم في الجزائر: شاهدة محضة على الطبيعة التي لا لبس فيها. لكن دعونا نجتمع معًا لأن دكتور إدوارد م. فاليت فون كاستلبيرج هو أول من دون السيرة الذاتية الخاصة بالفنانة بتينا. حيث يذهب في تدوينه في رحلات الرسم إلى تيسينو واليونان ومصر ومجموعة متنوعة من المعارض المقامة منذ فترة طويلة (1967، دار النشر فيرلاج كلاينر، برن).
هناك مزيدٌ من الأغوار التي لا بد من اكتشافها - فيما يتعلَّق بتطور بتينا وصولاً إلى الجزائر - عن السيد إرفين بوفين الذي رافقها على مدار حياتها المهنية ورحلاتها المبينة هنا. حيث بدأ في تدريسها مجال الرسم وكان حازمًا وصارمًا أكثر من أي معلم آخر. ولكن دعونا نترك المجال للفنانة بتينا لتتحدث عنه بنفسها: "لم أكن أتعلم بوعي إلا بعد وفاته. حيث كنت أقاومه وامتنع عنه كثيرًا في شبابي. ولم أكن أريد أن أكون بعيدة، لكنني كنت متعصبةً بالقرب منه. حيث كانت خصوصيته وطريقته وأُلفة مشاعره تتعارض مع مزاجي الانفعالي. وفي البداية أسأتُ الحكم على إدراك الأمور الأساسية والجوهرية المشكلة للذوق والأسلوب النابعة مباشرة من الأُلفة. فكنتُ أرغب دائمًا في التقدُّم والتطوُّر بشكلٍ كبير. حيث كانت تسمح لي طبيعتي العدوانية التي تجتاحني - في بعض الأحيان - بالفرار من صوري الخاصة إلى صور إرفين بوفين. كما يبدو لي رُقي طبيعته وألوانه ورسوماته ولوحه تحذيرًا مستمرًا تجاه الجزء الهمجي من فني".
إن استكشاف بتينا لماهية معلمها يمثل تحديًا بالنسبة للسيد إرفين بوفين في تحديد شخصية التلميذة نفسها. حيث كتب عام 1965: "أول أمر مفاجئ تمامًا عندما ظهرت موهبة بتينا كان فهمًا مفعمًا بالحيوية والمرح للظواهر الطبيعية والصراع المرير معهم: تجسيد ورسم البحر المتحرك الواقع على جزيرة سيلت وماترهورن وتيسينو هي أول ملكية لها على الأرض. ولكنها سرعان ما تنتهج مسارًا يؤدي إلى الانفصال الشديد. حيث تغلبت عن السعادة الساذجة في التجسيد والرسم المبهج؛ لأن إرادة قوية بناءة سيطرت عليها. فبدأت فترة الفصل الواضح للون المحلي ولون الضوء. وكان أسلوبها الخاص قويًا وواعيًا وتحديد أهدافها كان مركزًا وناجحًا. كما أنها ليست مستعدة لرؤية الإنسان بروحه على أنه شيء عيني. حيث لا يوجد حساب ماكر ولا سرقة فكرية في عملها. فكان كل شيء تراه له صدى في كيانها الذاتي. وتحديدًا كما يستطيع الملحن تمثيل روح الشخص في الموسيقى، لذلك يجد كل شخص اللون والنوع الذي يرفع جوهر وكيان الرسام إلى كل ما هو روحي. فالأشخاص الذين أسرتهم لم يُطلق سراحهم مطلقًا من عالم الرب إلى الناس ...".
انطباعات من مدينة سولينجن ، مسقط رأس بيتينا هاينن أيتش
كان الخروج إلى العالم عبر رحلات الدراسة والرسم يؤدي دائمًا إلى العودة إلى منزل عائلة هينان في زولينغن، إلى الوالد هانز هينان. حيث كان رئيس تحرير الصحيفة اليومية "زولينجر تاجيبلات" منذ ما يقرب من عشر سنوات، وسلح نفسه بالتشكيك والهدوء الخارجي الذي لا يمكن تعكير صفوه، وهو شرط أساسي لتأكيد الذات الفكرية، خاصةً في تلك السنوات التي شهدنا فيها الحرب والسنوات التي تلتها، في مقابل حساسية الشاعر التي توهجت من قصائد بتينا المنشورة في الكتاب. كانت الأم، إرنا هاينن شتاينهوف، امرأةً تبدو مضاءة بشكل غامض في الذاكرة، وحافظة ذكية ومحفزة حكيمة. كما كان يعتقد جميعُ من في المنزل أن الأشياء الفنية أهم بكثير من الأشياء المادية. وكُسر حاجز العزلة الخارجية الهادئة بشكل احتفالي عندما حُلت لفائف الصور عند العودة إلى المنزل. وكانت اللوحة المرسومة دائمًا شقيقة للكلمة، لأن الأمر كان يعني تجربة الفن في منزل الشاعر هانز هاينان، وفي الوقت نفسه كان الأمر واجب الصياغة. في ذكرى تلك السنوات تقول بتينا اليوم: "ما تعلمته في منزل العائلة ومعلمي عندما كنت صغيرة أصبح العمود الفقري لحياتي في الجزائر، وهذه الذكريات غالبًا ما تفرض عليّ الشعور بالوحدة". حدث هذا الثوران في فترة الشباب في عام 1960. التعرف على عبد الحميد عياش في باريس! أجبرت المدينة الفضية الرمادية على ألوان جديدة. متحف اللوفر! الخوف! صور الخرافات!
في 3 فبراير 1961 وُلدت الابنة ديانا. لم تذهب بتينا إلى شمال أفريقيا لأول مرة من خلال عبد الحميد. بل إنها دُعيت إلى معرض يُقام في القاهرة من خلال المعهد الثقافي الألماني عام 1962 واستغلت هذه الفرصة للذهاب في رحلة إلى مصر. واتضح لاحقًا أن ذلك كان حدثًا مصيريًا بالنسبة لها حيث إن عالمها - كما أوضح بوفين - كان يغلب عليه الطابع الرسمي. لذا فإن تجربة بتينا في أفريقيا تختلف كثيرًا عما اعتادت عليه، حيث تحدث بوفين عن "عيون جديدة وتقييمات جديدة" وكتب أن فنانة شابة أرادت "المشاركة شخصيًا في عبء وكرامة المجتمع هناك". وبذلك حدد العوامل التي كانت تحرك فن بتينا داخليًا في الجزائر! وفيها يغلب التوجه الفني الأمور اليومية العادية بصورة مطلقة. هذا هو بالضبط ما سهَّل عليها، بصفتها مواطنة أوروبية، مسألة التغلب على بعض الصعوبات في الحياة في الجزائر، بل وتحويلها لأمور إيجابية تخدمها في عملها.
Photos de portrait du propriétaire de la carrière et entrepreneur en bâtiment Abdelhamid Ayech (1926-2010), le mari de Bettina Heinen-Ayech
غادرت مع عبد الحميد إلى الجزائر بعد ذلك بعام، أي في 3 فبراير 1963. في البداية تم التخطيط لزيارة عائلية لمدة ثلاثة أسابيع. وتعيش العائلة الآن في مسقط رأس حميد منذ ما يقرب من خمسة عقود. تظهر الصورة الأولى التي رسمتها بتينا في الجزائر فناءً خلفيًا، وتطل عليه شقة صغيرة في وسط المدينة: ويرفرف الغسيل من أمام سور معتم. وتتحول الدمدمة الخالية من الأوراق لمشروب النبيذ ومصراع قديم إلى جنة من الذهب البرتقالي والأخضر الزجاجي. وستارة ترفرف خلف اللون الأزرق الداكن الشديد، وتنبثق منها زهور مثل النجوم باللون الأحمر القرمزي … . ومن ثم استلهمت الفنانة من هذه الصورة الأولى صورًا أخرى كثيرة لها رونق وبريق شرقي. ولكن قدرة بتينا على التغلب على العوامل الخارجية والوصول إلى "العوامل الأصلية" - كما تسميها - نمت بسرعة.
منذ انتقالها إلى الجزائر في عام 1963 ، استخدمت بتينا هاينن عايش ، بالإضافة إلى الخاتم المعتاد لها ، أحيانًا هذا الخاتم الذي يمثل التهجئة العربية لاسم بتينة.
زادت هذه الوتيرة بمرور السنوات خاصة في رسوماتها ووصولاً إلى كافة أعمالها الفنية. ولكن لم تعتمد بتينا في أي منها على المعالم السياحية. وسوف تنتظر عبثًا إذا ظننت أنك ستخرج بحكم تاريخية من الكتاب. فنادرًا ما تحظى الفكرة الثقافية بأهمية أكثر بالنسبة لها من التجسيد العرضي للطبيعة. وهذه الصراعات لم تكن سطحية ومرئية في الصورة المرسومة. بل كانت تكمن خلف الصورة نفسها. ولكن يمكن قراءة مدى الحاضر والأصل خاصةً في الصور. حيث إنها لا تعتمد على نقل المعلومات التافهة. ولكن أليس هذا هو جوهر الرسم الذي يبدو في يومنا هذا مهددًا للغاية من خلال الكلمات التحريرية؟ حيث إن الصمت الذي يخيم على الصور له قدرة بلاغية أعلى من اللغة نفسها! وتحديدًا كانت هذه هي القوة المسيطرة على فن بتينا من خلال المساحات الرحيبة للطبيعة التي تتخللها أشعة الشمس، وكل ذلك في سياق مقابلات مع أشخاص في شكلها الأصلي. ونظرًا لأن كل هذا يصعب في النهاية من وجود تفسير توضيحي، بل وإنه تم الوصول إلى جوهر عمل بتينا في الوقت نفسه، تم إعطائها الكلمة للتحدث بنفسها: "في البداية رسمت البلد بحماس ونهم لا نهاية له للتشكيلات الجريئة والتغيير المغامر للمواسم في الرومانسية البرية. ولكن سرعان ما أحالت المعرفة دون استكمال صورة الحاضر المكتمل للطبيعة." تصف بتينا مصطلح "الحاضر المكتمل" على النحو التالي: "إن النظرة العامة المشتركة في أوروبا تعطي دائمًا انطباعًا بالتحول. وفي مكان ما وراءه يظهر البحر. ويعتقد الرسامة أن الشوق لا بد أن يلوح بأجنحته أبعد من نطاق أوروبا. إلا أن المشهد في الجزائر يعطيني الانطباع بأنني في نهاية الطريق؛ كما لو كان من خلال عملي يجب أن أفهم المظاهر التي لا تعد ولا تحصى لهذا الواقع الواحد." هناك حوالي خمسين وجهة نظر لسلسلة جبال الماهونة؛ ولن تجد فيها أي تكرار. وكما هو الحال في عملية دورية تتضح رؤية زيادة حيازة الأرض على أنها انتهاك للأرض الأصلية. ورجوعًا إلى المصطلح الذي تفسره بتينا بنفسها: "أنا لا أريد أن أهين الطبيعة بتحويلها إلى فكرة ودافع، ولكن أريد أن أدركها ككل. لذا تصبح في الوقت نفسه جزءًا من نفسي أكثر فأكثر." بالطبع لا يمكن فصل مثل هذه الحجة عن واقع عملية الرسم بصورة بحتة - خاصة عند الرسم في الجنوب الحار. وتصمم بتينا مناظرها الطبيعية في وأمام الطبيعة. لهذا فهي غالبًا ما تضطر إلى القيام بجولات موسعة في الوحدة وتقتصر على الأساسيات. ويتحدد أسلوبها بشكل أساسي من خلال حقيقة أن الألوان على الورقة تجف على الفور. وهذا يمنع تأثيرات التدرج المعتادة في الألوان المائية. حيث تُستخدم الألوان جنبًا إلى جنب مثل الفسيفساء تقريبًا. وهذا هو سبب السطوع الاستثنائي لصور بتينا. وفي الوقت نفسه يفرض التفكيك المنشور تشكيل بنية صورة مقدرة من الناحية الهيكلية. وذلك تتميز العناصر الخارجية الرئيسية.
ظلت بتينا تبحث منذ شبابها عن اللون القوي: في النباتات شبه الاستوائية في تيسينو في شمال النرويج مع ضوء شمس منتصف الليل. غير أنها وجدت في الجزائر الألوان المحلية القوية بالإضافة إلى الضوء الساطع: احمرار الأرض الغنية بالمواد الخام، والأخضر المركز لنبات لقمح الصغير، وذهب الحبوب الناضجة، ولون الزهور الزاهية الأصفر والبرتقالي. ولطالما اقترب اللون بالواقعية لتبرير المبالغة الرمزية. وعلى ما يبدو أن عمل بتينا وصل إلى منتصفه أو ذروته في عام 1965. حيث نجحت في تحقيق عاملي الاتساع والعمق. في حين أن إدراكات عوالم الجبال النرويجية قدمت ذات مرة صورًا بانورامية، فإن التكوينات يزداد بريقها الآن إلى أجل غير مسمى. وازدادت قوة الرسم بالفحم. حيث إن عامل الإيقاع يعود مجددًا إلى الصور. ومن ثم تلتقط الرسامة المشهد كاملاً (أحيانًا في تنسيقات بحجم الجدار، ومنحدرات شجرة الزيتون، وحقول عباد الشمس، وحقول الخشخاش، والمروج، والرخام) ، في حين تبذل كل جهدها لتمييز تفاصيل المشهد كاملاً والحفاظ على الروائح التي تفوح من الزهور والشفافية حتى مع وفرة الكثير من أنواع الزهور النابضة بالحياة. وبالتالي تتزايد قدرة تلك الموهبة الثائرة على التنفيس عن هذه الأعمال بكل هدوء. وأدركت بتينا ذلك بنفسها: "بعد سنوات من السفر والبحث واستنفاد كل قواي الآن أجد مبتغاي." وبهذه الطريقة تتضح العلاقة الحميمة بمعنى بوفين أو سحر الأرابيسك بشكل متزايد. كما أصبحت الرسامة "فنانةً" أيضًا كما يصفها الفرنسيون.
لتلخيص مسيرة التطور في كلماتٍ رئيسة: بحلول عام 1965 تمكنت بتينا من تحقيق الأمور النمطية. منذ ذلك الحين استمر فنها في التحسن من حيث الجودة والشخصية. وهذا ينطبق بالتساوي على المناظر الطبيعية كما في صور البورترية. في المناظر الطبيعية تثبت رؤية التحسن والتطور الشخصي في أعمالها واستغنائها عن طابع الصمت والإشارة التي كانت تتبعه. وهناك إدراك أكثر وعيًا للألوان، نعم، يمكنك فهم كلمة بتينا "الدخول إلى أغوار روح المناظر الطبيعية" وتشعر كيف يعني ذلك عندما تقول بتينا إنها يزداد شعورها بالمناظر الطبيعية أكثر فأكثر على أنها جزءًا لا يتجزأ من كيانها. دعونا نترك الكلمة للرسامة مجددًا: "لم أكن أدرك مفهوم الوقت بالمنظور الأوروبي أثناء إقامتي في الجزائر. حيث كان لدي وقت للرسم ووقت للتفكر ووقت للقراءة؛ باختصار: كان لدي وقت للحياة. بالطبع كان لدي شعور بالوحدة. ولكنني بدأت أدرك جوهر اللحظة."، كانت بتينا تخشى من صعوبة فهم ذلك في ألمانيا لأن كل الحاضر يُفهم غريزيًا على أنه الماضي. "ولكن جوهر اللحظة يكشف لي الكرامة الطبيعية للأشخاص البسطاء هنا. حيث أشعر بأن أعبائي أخف بكثير وأقل تأثرًا بالمخاوف التي أشعر بها من الخطابات: التي تقول لي أنني سيتوجب عليَّ البقاء وحيدة هنا وسوف تنطفئ شمعة شغفي وحماستي - و: كيف يمكنني الاستغناء عن الحياة الثقافية الأوروبية بكل بساطة؟ أشعر أن مثل هذه الخطابات أصبحت ميكانيكية أكثر فأكثر؛ وهذا يعني أنها تخفف عليَّ شدة الأفكار والمشاعر بسبب ضيق الوقت والتأمل ولم يعد لها مضمون حقيقي جوهري. في هذه اللحظات أدركت أنني أحب الجزائر وأشعر بأنني مقبولة لدى شعبها." هكذا تشرع بتينا علاقتها الرائعة مع المثقفين. حيث إنها بالكاد تشعر تجاه الفنانين بالتحفظات والقيود والمنافسات التي تحدق بأوروبا من كل جانب.
بفضل الحياة الفنية المليئة بالمغامرات والفيض الواسع من الصور وعلاقات الصداقة وما يزيد عن 85 ساعة في معارض مختلفة تمكنت الفنانة من التخلص سنة بعد أخرى من التناقضات التي واجهتها. المباني التي رسمتها المبنية من شقوق جبال الأطلس، ومناظر المدن التي تتدفق في الرمال، ورفرفة أشجار النخيل، وغبار قرى الواحات، وتوطيد المزيد من الحصون البدوية، وأصابع السبابة الحجرية على طرق القوافل، والقبور الوحيدة، وإطلالات على البحر: لا شيء منها مجرد صورة أو حتى ملصق؛ الشخص الموجود هنا لا يجلس حتى تُرسم صورته فحسب، بل إنها تضيف الحقيقة في نفس الوقت وذلك من خلال التشكيك في الصورة الذي ليس لها مثيل. كما أن الرسم على أنماط جديدة لنفس الدوافع والمشاهد لا يؤدي دائمًا إلى نفس النتيجة، ولكن كما هو الحال في الضباب دائمًا ما يكون نفس الشيء بطرق وهيئات مختلفة! فهو الرقي عن الزيادة في الحياة والاهتزاز، الرقي في العمق وليس في البراعة. الثقافة دائمًا ما كانت تؤرق بتينا. وصورها الفنية تؤكد ذلك.
Hans Karl Pesch
في 7 يونيو 2020 تُوفيت الفنانة عن عمرٍ يناهزُ 82 عامًا أثناء إقامتها مع عائلتها في ميونيخ. وقبل وفاتها بفترةٍ قصيرة أكملت صورة زهور وأعربت عن رغبتها في العودة إلى الجزائر قريبًا. وهي الآن مدفونة في مقبرة فالدفريدهوف في ميونيخ.